الخميس، 22 فبراير 2018

حديد ودم.......عمار علي حسن



وضع الحدَّاد على النار الحامية كومة مواسير بنادق آلية جلبها من مخلفات الحروب، فلمَّا سرى الدفء فى صلبها الأجوف راحت تنز دمًا ثقيلًا وغزيرًا، فأطفأ النار، وانبعثت، وسط الدخان والأبخرة المتصاعدة، أصوات أنين وزعيق وعويل واستغاثات وحمحمة، تتقطع لها نياط القلوب العاصية.



اللقاء المنتظر
سحرته الغريبة حين جلست بجانبه فى الحافلة، انشغل بها فشعرت به، وجلسا يسألان نفسيهما صامتين عن حب النظرة الأولى. ارتج قلبه فثقل لسانه، واستسلم للحرارة الخفيفة التى تصله من التصاقهما العفوى.
حين جاءت محطتها قامت مسرعة. خطف ورقة من حقيبته وكتب فيها بسرعة: «أسرت روحى وأتمنى لقاءك»، ومدها إليها من النافذة وهى تخطو نحو الرصيف.
أخذت الورقة، ولما فتحتها أشرق وجهها بنور عجيب، وفمها بابتسامة عذبة، وأومأت برأسها موافقة، فغرق فى سعادة غامرة، وأغمض عينيه، ولم يدر بأن الحافلة مضت إلى الأمام.
حين أفاق تذكر أنه لم يكتب اسمه، ولا رقم هاتفه، ولا حتى مكان اللقاء المنتظر وزمانه.



مصعد
تعطل المصعد فدفع ساقيه نحو سلم البناية الشاهقة. عند الدرج التاسع وجد أمامه فراغًا مظلمًا. وقبل أن ينقل قدميه نحو المجهول، جاء صوت من قلب العتمة:
ـ ألم يئن للعجوز أن يعلم أن السنين قد جرت بعيدًا.



عشق
سألتها صاحبتها متعجبة:
ـ لماذا تصغرين مع مرور السنين؟
تنهدت غارقة فى أسرار عشقها الدفين، ولاذت بالصمت، بينما قلبها يقول:
ـ لا يشيخ من يجود الزمان عليه بالوصال.


تغيير
هدم الرجل بيت الطوف، وتهاوت تحت قدميه قطع الطين اليابسة الملفوفة بالقش، وأقام مكانها حوائط الطوب اللبن.
بعد سنوات هدمها وصارت الحوائط من الحجر، وقبل أن تتآكل الأحجار أو تكل خلعها وانتصبت أعمدة الحديد والأسمنت ووقف وسطها الطوب الأحمر فى خيلاء.
مع تبدل الحوائط بدل الرجل أرديته، جلباب مرقوع، آخر من الجوخ المعتبر، وبعده بذلة من الصوف المفتخر ورابطة عنق لامعة تزين صدره.
فى كل هذه الأحوال ظل الجيران يشكون من قمامة يلقيها أمام دورهم، وبذاءة لسانه التى تجرح آذان أولادهم، وشخيره الذى يخرق النوافذ ويتسرب إلى النائمين، وزهومة طعامه التى تبعث من يشم رائحتها على التقيؤ.




نعش
بينما تنوح النسوة، ويمشى الرجال منكسرين، رفرف النعش فوق الأكتاف المكدودة، وأطل رأس الراقد فيه، ثم أطلق ضحكة ارتعدت لها القلوب، وامتلأت العيون بدهشة مذهلة، وبعدها أخرج لسانه، وراح يصفع به وجوه السائرين، فيتساقط منه دود أسود، تكاثر حتى سد أمامهم الطريق.




سحاب
ظللته سحابة وحيدة تمشى على مهل فى صفحة السماء، واستمتع بزخات خفيفة أهدتها إليه فى قيظ الصحراء. وجد نفسه يجرى تحتها لتحميه من الشعاع الحارق، الذى صوب سهامه إلى قلب السحابة فمزقها قطعًا صغيرة متساوية، طارت كل منها بعيدة عن أختها، وانفسحت بينها مساحات وسعية يغشيها الأزرق الناصع.
رفع رأسه ليعرف تحت أى منها يجرى، لكنه وجدها راحت تتشظى إلى ندف ضئيلة، لم تلبث أن ذابت وتركته نهبًا للصهد فى العراء.